فصل: النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا قُدِّمَ فِي آيَةٍ وَأُخِّرَ فِي أُخْرَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا قُدِّمَ فِي آيَةٍ وَأُخِّرَ فِي أُخْرَى:

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي فَاتِحَةِ الفاتحة: {الحمد لله} وفي خاتمة الجاثية: {فلله الحمد} فَتَقْدِيمُ (الْحَمْدِ) فِي الْأَوَّلِ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ وَالثَّانِي عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرِ لِمَنِ الْحَمْدُ وَمَنْ أَهْلُهُ فَجَاءَ الْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ نَظِيرُهُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثم قال: {لله الواحد القهار}.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} قَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمَرْفُوعِ لِاشْتِمَالِ مَا قَبْلَهُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الرُّسُلَ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَكَانَ مَظِنَّةُ التَّتَابُعِ عَلَى مَجْرَى الْعِبَارَةِ تِلْكَ الْقَرْيَةَ وَيَبْقَى مُخَيَّلًا فِي فِكْرِهِ أكانت كلها كذلك أم كان فيها.. عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قبل}، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قبل}، فإن ما قبل الأولى {أإذا كنا ترابا وآباؤنا} وما قبل الثانية {أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما}، فَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَاكَ كَوْنُ أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ تُرَابًا وَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَا كَوْنُهُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْأُولَى أَدْخَلُ عِنْدَهُمْ فِي تَبْعِيدِ الْبَعْثِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَقَالَ الْمَلَأُ من قومه الذين كفروا}، فَقُدِّمِ الْمَجْرُورُ عَلَى الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ- وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ تَمَامَ الْوَصْفِ بِتَمَامِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفُ وَتَمَامُهُ {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا}- لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي الْقَائِلِينَ أَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سورة طه: {آمنا برب هارون وموسى}.
بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {رَبِّ مُوسَى وهارون}.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نحن نرزقكم وإياهم}، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} قَدَّمَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْأُولَى فِي الْفُقَرَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {من إملاق} فَكَانَ رِزْقُهُمْ عِنْدَهُمْ أَهَمَّ مِنْ رِزْقِ أَوْلَادِهِمْ فَقَدَّمَ الْوَعْدَ بِرِزْقِهِمْ عَلَى الْوَعْدِ بِرِزْقِ أَوْلَادِهِمْ والخطاب في الثانية للأغيناء بدليل: {خشية إملاق} فَإِنَّ الْخَشْيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فَكَانَ رِزْقُ أَوْلَادِهِمْ هُوَ الْمَطْلُوبَ دُونَ رِزْقِهِمْ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ فَكَانَ أَهَمَّ فَقَدَّمَ الْوَعْدَ بِرِزْقِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى الْوَعْدِ بِرِزْقِهِمْ.
وَمِنْهَا ذِكْرُ اللَّهِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غيب السماوات والأرض} فقدم ذكر السموات لِأَنَّ مَعْلُومَاتِهَا أَكْثَرُ فَكَانَ تَقْدِيمُهَا أَدَلَّ عَلَى صِفَةِ الْعَالِمِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ تَعْجِيزِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْخَلْقِ وَالْمُشَارَكَةِ وَأَمْرُ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِكَثِيرٍ فَبَدَأَ بِالْأَرْضِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ عَجْزِهِمْ لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَيْسَرِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ عَنْ أَعْظَمِهِمَا أَعْجَزَ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}، فقدم السموات تنبيها على عظم قدرته سبحانه لأنه خَلْقَهَا أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ كَمَا صُرِّحَ به في سور الْمُؤْمِنِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى إِمْسَاكِ الْأَعْظَمِ كَانَ عَلَى إِمْسَاكِ الْأَصْغَرِ أَقْدَرَ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا اكْتَفَى مِنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ بِهَذَا التَّنْبِيهِ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ!.
قُلْتُ: أَرَادَ ذِكْرَهَا مُطَابَقَةً لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ فَانْظُرْ أَيُّهَا الْعَاقِلُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ وَمَا أُودِعَهُ مِنَ الْبَيَانِ وَالتِّبْيَانِ تَحْمَدْ عَاقِبَةَ النَّظَرِ وَتَنْتَظِرْ خَيْرَ مُنْتَظَرٍ!.
وَمِنْ أَنْوَاعِهِ أَنْ يُقَدَّمَ اللَّفْظُ فِي الْآيَةِ وَيَتَأَخَّرَ فِيهَا لِقَصْدِ أَنْ يَقَعَ الْبَدَاءَةُ وَالْخَتْمُ بِهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فأما الذين اسودت وجوههم}.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ من اللهو ومن التجارة}.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا أَسْلَفْنَاهُ لَقِيلَ مَا تَكْتُمُونَ وَتَبْدُونَ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِعِلْمِهِ أمدح كما قيل: {يعلم سركم وجهركم} و: {عالم الغيب والشهادة} {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون}.
فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى}.
قُلْتُ لِأَجْلِ تَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَقَعَ التَّقْدِيمُ فِي مَوْضِعٍ وَالتَّأْخِيرُ فِي آخَرَ، وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، لِلتَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى عِدَّةِ أَسَالِيبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقوله: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} وَقَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقوله: {وختم على سمعه وقلبه}.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ كِلَا الطَّرِيقَيْنِ دَاخِلٌ تَحْتَ الْحُسْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَطْفَ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالتَّثْنِيَةِ فِي الْمُتَّفِقَيْنِ فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تُقَدِّمَ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَإِنَّهُ حَسَنٌ مُؤَدٍّ إِلَى الْغَرَضِ. وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَمْ يُجْعَلْ لِلرَّجُلِ مَنْزِلَةً بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ بِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهَا مِنَ الْجَائِي كَأَنَّكَ قُلْتَ: مَرَرْتُ بِهِمَا يَعْنِي فِي قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَجَاءَنِي إِلَّا أَنَّ الْأَحْسَنَ تَقْدِيمُ الْأَفْضَلِ فَالْقَلْبُ رَئِيسُ الْأَعْضَاءِ وَالْمُضْغَةُ لَهَا الشَّأْنُ ثُمَّ السَّمْعُ طَرِيقُ إدرك وَحْيِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ كُلُّهَا.
قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ تَوْجِيهُ كُلِّ مَوْضِعٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ.

.الْقَلْبُ:

وَفِي كَوْنِهِ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ خِلَافٌ فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ حَازِمٌ فِي كِتَابِ: (مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ) وَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَبِقَصْدِ الْعَبَثِ أَوِ التَّهَكُّمِ أَوِ الْمُحَاكَاةِ أَوْ حَالِ اضْطِرَارٍ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذلك.
وقبله جماعة مطلقة بِشَرْطِ عَدَمِ اللَّبْسِ كَمَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ: (مَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ).
وَفَصَّلَ آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَتَضَمَّنَ اعْتِبَارًا لَطِيفًا فَبَلِيغٌ وَإِلَّا فَلَا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: يَجُوزُ الْقَلْبُ عَلَى التَّأْوِيلِ ثُمَّ قَدْ يَقْرُبُ التَّأْوِيلُ فَيَصِحُّ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ وَقَدْ يَبْعُدُ فَيَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ.
وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا:

.(الأول) قَلْبُ الْإِسْنَادِ:

وَهُوَ أَنْ يَشْمَلَ الْإِسْنَادَ إِلَى شَيْءٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} إِنْ لَمْ تَجْعَلِ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمَفَاتِحَ تَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعُصْبَةَ تَنُوءُ بِالْمَفَاتِحِ لِثِقَلِهَا فَأَسْنَدَ (لَتَنُوءُ) إِلَى (الْمَفَاتِحِ) وَالْمُرَادُ إِسْنَادُهُ إِلَى الْعُصْبَةِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْحَالِ وَالْعُصْبَةَ مُسْتَصْحِبَةُ الْمَفَاتِحِ لَا تستصحبها المفاتيح وفائدته المبالغة يجعل الْمَفَاتِحِ كَأَنَّهَا مُسْتَتْبِعَةٌ لِلْعُصْبَةِ الْقَوِيَّةِ بِثِقَلِهَا.
وَقِيلَ: لَا قَلْبَ فِيهِ وَالْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من نقلها وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ أَنَّهَا بِالنَّقْلِ وَلَا قَلْبَ وَالْفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْبَاءِ لِأَنَّ (نَاءَ) غَيْرُ مُتَعَدٍّ يُقَالُ: نَاءَ النَّجْمُ أَيْ نَهَضَ وَيُقَالُ: نَاءَ أَيْ مَالَ لِلسُّقُوطِ فَإِذَا نَقَلْتَ الْفِعْلَ بِالْبَاءِ قُلْتَ: نُؤْتُ بِهِ أَيْ أَنْهَضْتُهُ وَأَمَلْتُهُ لِلسُّقُوطِ فَقَوْلُهُ: {لتنوء بالعصبة} أَيْ تُمِيلُهَا الْمَفَاتِحُ لِلسُّقُوطِ لِثِقَلِهَا.
قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ مَذْهَبُ الْفَارِسِيِّ أَصَحَّ لِأَنَّ نَقْلَ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِالْبَاءِ مَقِيسٌ وَالْقَلْبَ غَيْرُ مَقِيسٍ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ مَقِيسٌ أَوْلَى.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أَيْ خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَابْنُ السِّكِّيتِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: {وكان الإنسان عجولا}.
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: خلق الإنسان من العجلة لِكَثْرَةِ فِعْلِهِ إِيَّاهُ وَاعْتِمَادِهِ لَهُ وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى مِنَ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدِ اطَّرَدَ وَاتَّسَعَ فَحَمْلُهُ عَلَى الْقَلْبِ يَبْعُدُ فِي الصَّنْعَةِ وَيُضْعِفُ الْمَعْنَى.
وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ إِنَّ الْعَجَلَ هَاهُنَا الطِّينُ قَالَ: وَلَعَمْرِي إِنَّهُ فِي اللُّغَةِ كَمَا ذَكَرَ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا إِلَّا نَفْسُ الْعَجَلِ أَلَا ترى إلى قوله عقبه: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون}، ونظيره قوله: {وكان الإنسان عجولا} {وخلق الإنسان ضعيفا} لِأَنَّ الْعَجَلَةَ ضَرْبٌ مِنَ الضَّعْفِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَالْحَاجَةُ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ سكرة الموت بالحق} أي إِنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَأَنَّهُ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ} وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلُهُ: {لكل أجل كتاب}، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لِكُلِّ أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ أَجَلٌ مُؤَجَّلٌ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ يُرِدْكَ بخير}: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ يُرِيدُ بِكَ الْخَيْرَ وَيُقَالُ: أَرَادَهُ بِالْخَيْرِ وَأَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ.
وَجَعَلَ ابْنُ الضَّائِعِ مِنْهُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كلمات}، قَالَ: فَآدَمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ هُوَ الْمُتَلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ حَقِيقَةً وَيَقْرُبُ أَنْ يُنْسَبَ التَّلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ لِأَنَّ مَنْ تَلَقَّى شَيْئًا أَوْ طَلَبَ أَنْ يَتَلَقَّاهُ فَلَقِيَهُ كَانَ الْآخَرُ أَيْضًا قَدْ طَلَبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ قَالَ: ولقرب هذا المعنى قرئ بِالْقَلْبِ.
وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَعُمِّيَتْ عليكم} أَيْ فَعَمِيتُمْ عَلَيْهَا.
وَقَوْلَهُ: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض}.
وقوله: {وقد بلغت من الكبر عتيا}، {وقد بلغني الكبر} أَيْ بَلَغْتُ الْكِبَرَ.
وَقَوْلَهُ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هواه} وقوله: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}، فَإِنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُعَادِي وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَوْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَاوَزْتَهُ وَخَلَّفْتَهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَنْ له إرادة وأما عاديته فمفاعة لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ.
وَجَعَلَ مِنْهُ بعضهم: {وإنه لحب الخير لشديد} أَيْ إِنَّ حُبَّهُ لِلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ.
وَقِيلَ لَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ وَالشِّدَّةُ الْبُخْلُ أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ لِلْمَالِ يَبْخَلُ.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار} كقوله: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ لِأَنَّ الْمَعْرُوضَ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ لِلْمَعْرُوضِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ وَيُرِيدُ وَعَلَى هَذَا فَلَا قَلْبَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مَقْهُورُونَ فَكَأَنَّهُمْ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ وَالنَّارُ مُتَصَرِّفَةٌ فِيهِمْ وَهُوَ كَالْمَتَاعِ الَّذِي يُقَرَّبُ مِنْهُ مَنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ كَمَا قَالُوا: عُرِضَتِ الْجَارِيَةُ عَلَى الْبَيْعِ.
وَقَوْلُهُ: {وَحَرَّمْنَا عليه المراضع من قبل} وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى الملكف فَالْمَعْنَى وَحَرَّمْنَا عَلَى الْمَرَاضِعِ أَنْ تُرْضِعَهُ وَوَجْهُ تَحْرِيمِ إِرْضَاعِهِ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يَقْبَلَ إِرْضَاعَهُنَّ حَتَّى يُرَدَّ إِلَى أُمِّهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم}، وَقِيلَ: الْأَصْلُ وَمَا تَخْدَعُهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ هِيَ الْمُخَادِعَةُ وَالْمُسَوِّلَةُ، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ سولت لكم أنفسكم}.
ورد بأن الفاعل في مثل هذا هوالمفعول في المعنى وأن التغاير في اللفظ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَلْبِ.